تفسير سورة الكهف - تفسير بن كثير سورة الكهف




وقال العوفي، عن ابن عباس قال:لما ظهر موسى وقومه على مصر، أنـزل قومه ، فلما استقرت بهم الدار، أنـزل الله:أن ذكرهم بأيام الله فخطب قومه، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون، وذكرهم هلاك عدوهم، وما استخلفهم الله في الأرض، وقال:كلم الله نبيكم تكليمًا، واصطفاني لنفسه، وأنـزل عليّ محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه؛ فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التوراة، فلم يترك نعمة أنعمها عليهم إلا وعرفهم إياها. فقال له رجل من بني إسرائيل:هم كذلك يا نبي الله، قد عرفنا الذي تقول، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال:لا. فبعث الله جبرائيل إلى موسى، عليهما السلام ، فقال:إن الله [ عز وجل ] يقول:وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى . إن على شط البحر رجلا هو أعلم منك - قال ابن عباس:هو الخضر- فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى إليه:أن ائت البحر، فإنك تجد على شط البحر حوتًا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شط البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك، فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب. فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه، سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه: ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) لك، قال الفتى:لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربًا فأعجب ذلك موسى، فرجع حتى أتى الصخرة، فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس، حتى يكون صخرة ، فجعل نبي الله يعجب من ذلك، حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر بها فسلم عليه، فقال الخضر:وعليك السلام، وأنى يكون السلام بهذه الأرض؟ ومن أنت؟ قال:أنا موسى. فقال الخضر:أصاحب بني إسرائيل؟ [ قال:نعم ] فرحب به وقال:ما جاء بك؟ قال جئتك عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا يقول:لا تطيق ذلك. قال موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قال:فانطلق به، وقال له:لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه، فذلك قوله: حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا .
وقال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن ابن عباس:أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس:هو خضر. فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال:إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لُقيه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال:إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال:تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال:لا؛ فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إلى لُقيّه فجعل الله له الحوت آية وقيل له:إذا فَقَدت الحوت [ فهو ثمة ] فارجع، فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر. فقال فتى موسى لموسى: ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ) قَالَ مُوسَى ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) فوجدا عبدنا خضرًا فكان من شأنهما ما قص في الله كتابه »
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ( 66 ) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 67 ) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ( 68 ) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ( 69 ) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ( 70 ) .
يخبر تعالى عن قيل موسى، عليه السلام لذلك [ الرجل ] العالم، وهو الخضر، الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر، ( قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ ) سؤال بتلطف ، لا على وجه الإلزام والإجبار. وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم. وقوله: ( أَتَّبِعُكَ ) أي:أصحبك وأرافقك، ( عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) أي:مما علمك الله شيئًا، أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح.
فعندها ( قَالَ ) الخضر لموسى: ( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) أي:أنت لا تقدر أن تصاحبني لما ترى [ منِّي ] من الأفعال التي تخالف شريعتك؛ لأني على علم من علم الله، ما علمكه الله، وأنت على علم من علم الله، ما علمنيه الله، فكل منا مكلف بأمور . من الله دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي.
( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكنْ ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك.
قَالَ له موسى: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ) أي:على ما أرى من أمورك، ( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) أي:ولا أخالفك في شيء. فعند ذلك شارطه الخضر ( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ) أي:ابتداءً ( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) أي:حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه، عن ابن عباس قال:سأل موسى ربه، عز وجل، فقال :رب، أي عبادك أحب إليك؟ قال:الذي يذكرني ولا ينساني. قال فأي عبادك أقضى؟ قال:الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال أي رب، أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. قال:أي رب هل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال:نعم. قال:فمن هو؟ قال الخضر. قال:فأين أطلبه؟ قال على الساحل عند الصخرة، التي ينفلت عندها الحوت. قال:فخرج موسى يطلبه، حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلم كل واحد منهما على صاحبه. فقال له موسى:إني أريد أن تصحبني قال إنك لن تطيق صحبتي. قال:بلى. قال:فإن صحبتني ( فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) قال:فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور ، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه. قال:وبعث الله الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى:كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال:ما أقل ما رزأ! قال:يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقَدْر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء. وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه، أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر. وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له ذلك.
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ( 71 ) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 72 ) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ( 73 )
يقول تعالى مخبرًا عن موسى وصاحبه، وهو الخضر، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه ألا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة. وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول - يعني بغير أجرة- تكرمة للخضر. فلما استقلت بهم السفينة في البحر، ولججت أي:دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحًا من ألواحها ثم رقعها. فلم يملك موسى، عليه السلام، نفسه أن قال منكرًا عليه: ( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ) . وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل، كما قال الشاعر لدُوا للْمَوت وابْنُوا للخَرَاب
( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) قال مجاهد:منكرًا. وقال قتادة عجبًا. فعندها قال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط: ( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) يعني وهذا الصنيع فعلته قصدًا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرًا، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت.
( قَالَ ) أي موسى: ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) أي:لا تضيق عليّ وتُشدد علىّ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « كانت الأولى من موسى نسيانًا » .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ( 74 )
يقول تعالى: ( فَانْطَلَقَا ) أي:بعد ذلك، ( حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ ) وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم فقتله، فروي أنه احتز رأسه، وقيل:رضخه بحجر. وفي رواية:اقتطفه بيده. والله أعلم.
فلما شاهد موسى، عليه السلام، هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال: ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) أي صغيرة لم تعمل الحنث ، ولا حملت إثمًا بعد، فقتلته؟! ( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) أي:بغير مستند لقتله ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) أي:ظاهر النكارة.

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 75 ) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ( 76 )
( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) فأكد أيضًا في التذكار بالشرط الأول؛ فلهذا قال له موسى: ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ) أي:إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة ( فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) أي:قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة.
قال ابن جرير:حدثنا عبد الله بن زياد، حدثنا حجاج بن محمد، عن حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدًا فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: « رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ولكنه قال: ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) » [ مثقلة ] .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ( 77 ) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ( 78 ) .
يقول تعالى مخبرا عنهما:إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ) روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة وفي الحديث: « حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما » أي:بخلاء ( فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل. والانقضاض هو:السقوط.
وقوله: ( فَأَقَامَهُ ) أي:فردّه إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه ردّه بيديه، ودعمه حتى رد ميله . وهذا خارق فعند ذلك قال موسى له ( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) أي:لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانًا
( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) [ أي:لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك ] ، ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ) أي:بتفسير ( مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) .
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ( 79 ) .
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى، عليه السلام، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر، عليه السلام، على باطنة فقال إن:السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ [ لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة ( يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ) صالحة، أي:جيدة ( غَصْبًا ) فأردت أن أعيبها ] لأرده عنها لعيبها ، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها. وقد قيل:إنهم أيتام.
و [ قد ] روى ابن جريج عن وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي؛ أن اسم ذلك الملك هُدَدَ بن بُدَدَ، وقد تقدم أيضًا في رواية البخاري، وهو مذكور في التوراة في ذرية « العيص بن إسحاق » وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة، والله أعلم
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ( 80 ) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ( 81 )
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جَيْسُور. وفي الحديث عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا » . رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق، عن سعيد، عن ابن عباس، به؛ ولهذا قال: ( فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) أي:يحملهما حبه على متابعته على الكفر.
قال قتادة:قد فرح به أبواه حين ولد،وحزنا عليه حين قتل،ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
وصح في الحديث: « لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له » . وقال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [ البقرة:216 ] .
وقوله [ تعالى ] فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) أي:ولدًا أزكى من هذا، وهما أرحم به منه، قاله ابن جريج.
وقال قتادة:أبر بوالديه.
وقد تقدم أنهما بدلا جارية. وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم. قاله ابن جريح
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ( 82 ) .
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة؛ لأنه قال أولا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ [ الكهف:77 ] وقال هاهنا: ( فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ) كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [ محمد:13 ] ، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [ الزخرف:31 ] يعني:مكة والطائف.
ومعنى الآية:أن هذا الجدار إنما أصلحه لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما.
قال عكرمة، وقتادة، وغير واحد:كان تحته مال مدفون لهما. وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله.
وقال العوفي عن ابن عباس:كان تحته كنـز علم. وكذا قال سعيد بن جبير، وقال مجاهد:صحف فيها علم، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك، قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور:حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحارث بن عبد الله الْيَحْصَبيّ عن عياش بن عباس القتباني عن ابن حُجَيرة ، عن أبي ذر رضي الله عنه، [ رفعه ] قال: « إن الكنـز الذي ذكر الله في كتابه:لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه:عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب ؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضَحِك ؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله » .
بشر بن المنذر هذا يقال له:قاضي المصيصة. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي:في حديثه وهم .
وقد روي في هذا آثار عن السلف، فقال ابن جرير في تفسيره:حدثني يعقوب، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة حدثنا سلمة ، عن نعيم العنبري - وكان من جلساء الحسن- قال:سمعت الحسن - يعني البصري- يقول في قوله: ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال:لوح من ذهب مكتوب فيه:بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عياش عن عُمَر مولى غُفْرَة قال:إن الكنـز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف: ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال:كان لوحًا من ذهب مُصْمَت مكتوبا فيه:بسم الله الرحمن الرحيم، عجبٌ لمن عرف النار ثم ضحك! عجبٌ لمن أيقن بالقدر ثم نصب! عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، حدثنا هَنَّادَة بنت مالك الشيبانية قالت:سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول:سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال:سطران ونصف لم يتم الثالث:عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح؟ وقد قال تعالى: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [ الأنبياء:47 ] قالت:وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجًا.
وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة، وورد به الحديث المتقدم وإن صح، لا ينافي قول عكرمة:أنه كان مالا لأنهم ذكروا أنه كان لوحًا من ذهب، وفيه مال جزيل، أكثر ما زادوا أنه كان مودعًا فيه علم ، وهو حكم ومواعظ، والله أعلم.
وقوله: ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس:حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح، وتقدم أنه كان الأب السابع. [ فالله أعلم ]
وقوله: ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنـزهُمَا ) :هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى؛ لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله؛ وقال في الغلام: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ وقال في السفينة: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ، فالله أعلم.
وقوله: ( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) أي:هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر، عليه السلام، مع ما تقدم من قوله: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا .
وقال آخرون:كان رسولا. وقيل بل كان ملكًا. نقله الماوردي في تفسيره.
وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيًا. بل كان وليًا. فالله أعلم.
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بَلْيَا بن مَلْكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام
قالوا:وكان يكنى أبا العباس، ويلقب بالخضر، وكان من أبناء الملوك، ذكره النووي في تهذيب الأسماء، وحكى هو وغيره في كونه باقيًا إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات وآثارًا عن السلف وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث. ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها أحاديث التعزية وإسناده ضعيف.
ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [ الأنبياء:34 ] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » ، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ولا حضر عنده، ولا قاتل معه. ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه؛ لأنه عليه السلام كان مبعوثًا إلى جميع الثقلين:الجنّ والإنس، وقد قال: « لو كان موسى وعيسى حَيَّيْن ما وسعهما إلا اتباعي » وأخبر قبل موته بقليل:أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تَطْرفُ، إلى غير ذلك من الدلائل.
قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ في الخَضر قال ] : « إنما سمي خضرًا ؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تحته [ تهتز ] خضراء » .
ورواه أيضًا عن عبد الرزاق. وقد ثبت أيضًا في صحيح البخاري، عن همام، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنما سمي الخضِر؛ لأنه جلس على فَرْوَة، فإذا هي تهتز [ من خلفه ] خضراء »
والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، قاله عبد الرزاق. وقيل:المراد بذلك وجه الأرض.
وقوله: ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) أي:هذا تفسير ما ضقت به ذرعًا، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال: ( [ مَا لَمْ ] تَسْطِعْ ) وقبل ذلك كان الإشكال قويًا ثقيلا فقال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وهو الصعود إلى أعلاه، وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [ الكهف:97 ] ، وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظًا ومعنى والله أعلم.
فإن قيل:فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟
فالجواب:أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى، عليهما السلام. وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال:حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة ، حدثني ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن أبيه، عن عكرمة قال:قيل لابن عباس:لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه؟ فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال:شرب الفتى من الماء [ فخلد، فأخذه ] العالم، فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها تموج به إلى يوم القيامة؛ وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب
إسناد ضعيف، والحسن متروك، وأبوه غير معروف.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ( 83 )
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَيَسْأَلُونَكَ ) يا محمد ( عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) أي:عن خبره. وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا:سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنـزلت سورة الكهف.
وقد أورد ابن جرير هاهنا، والأموي في مغازيه، حديثا أسنده وهو ضعيف، عن عقبة بن عامر، أن نفرًا من اليهود جاؤوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء، فكان فيما أخبرهم به: « أنه كان شابا من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقوامًا وجوههم مثل وجوه الكلاب » . وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل. والعجب أن أبا زُرْعَة الرازي، مع جلالة قدره، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ابن فيليبس المقدوني، الذي تؤرخ به الروم، فأما الأول فقد ذكره الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل، عليه السلام، أول ما بناه وآمن به واتبعه، وكان معه الخضر، عليه السلام، وأما الثاني فهو، إسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور، والله أعلم. وهو الذي تؤرخ به من مملكته ملة الروم. وقد كان قبل المسيح، عليه السلام، بنحو من ثلثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، كما ذكره الأزرقي وغيره، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم، عليه السلام، وقرب إلى الله قربانًا، وقد ذكرنا طرفًا من أخباره في كتاب « البداية والنهاية » ، بما فيه كفاية ولله الحمد.
وقال وهب بن منبه:كان ملكًا، وإنما سمي ذا القرنين لأن؛ صفحتي رأسه كانتا من نحاس، قال:وقال بعض أهل الكتاب:لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم:كان في رأسه شبه القرنين، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل قال:سئل علي، رضي الله عنه، عن ذي القرنين، فقال:كان عبدًا ناصحَ الله فناصَحَه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين.
وكذا رواه شعبة، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن أبي الطفيل، سمع عليًا يقول ذلك.
ويقال:إنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب، من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ( 84 ) .
وقوله ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ ) أي:أعطيناه ملكًا عظيمًا متمكنًا، فيه له من جميع ما يؤتى الملوك، من التمكين والجنود ، وآلات الحرب والحصارات؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم، من العرب والعجم؛ ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها.
وقوله: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) :قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، وقتادة، والضحاك، وغيرهم:يعني علمًا.
وقال قتادة أيضًا في قوله: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال:منازل الأرض وأعلامها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال:تعليم الألسنة، كان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم.
وقال ابن لَهيعة:حدثني سالم بن غَيْلان، عن سعيد بن أبي هلال؛ أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار:أنت تقول:إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب:إن كنت قلت ذلك، فإن الله تعالى قال: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) .
وهذا الذي أنكره معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار هو الصواب ، والحق مع معاوية في الإنكار؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب: « إن كنا لنبلو عليه الكذب » يعني:فيما ينقله، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحيفته ، ولكن الشأن في صحيفته ، أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق ولا حاجة لنا مع خبر الله ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى شيء منها بالكلية، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحيفته من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك، ولا إلى الترقي في أسباب السموات. وقد قال الله في حق بلقيس: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [ النمل:23 ] أي:مما يؤتى مثلها من الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب، أي:الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرَّسَاتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك. قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببًا، والله أعلم.
وفي « المختارة » للحافظ الضياء المقدسي، من طريق قتيبة، عن أبي عوانة عن سماك بن حرب، عن حبيب بن حماز قال:كنت عند علي، رضي الله عنه، وسأله رجل عن ذي القرنين:كيف بلغ المشارق والمغارب؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب، وقَدَّر له الأسباب، وبسط له اليد .
فَأَتْبَعَ سَبَبًا ( 85 ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ( 86 ) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ( 87 ) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ( 88 ) .
قال ابن عباس: ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) يعني:بالسبب المنـزل ] . وقال مجاهد: ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) :منـزلا وطريقًا ما بين المشرق والمغرب.
وفي رواية عن مجاهد: ( سَبَبًا ) قال:طريقا في الأرض.
وقال قتادة:أي أتبع منازل الأرض ومعالمها .
وقال الضحاك: ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) أي:المنازل .
وقال سعيد بن جبير في قوله: ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) قال:علمًا. وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى، والسدي.
وقال مطر:معالم وآثار كانت قبل ذلك.
وقوله: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) أي:فسلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض. وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدّة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له. وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب، واختلاق زنادقتهم وكذبهم
وقوله: ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) أي:رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه .
والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من « الحمأة » وهو الطين، كما قال تعالى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [ الحجر:28 ] أي:طين أملس . وقد تقدم بيانه.
وقال ابن جرير:حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب حدثني نافع بن أبي نعيم، سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول:كان ابن عباس يقول ( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ثم فسرها:ذات حمأة. قال نافع:وسئل عنها كعب الأحبار فقال:أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء .
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وغير واحد.
وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا محمد بن دينار، عن سعد بن أوس، عن مِصْدَع، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه ( حَمِئَةٍ )
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: « وجدها تغرب في عين حامية » يعني:حارة. وكذا قال الحسن البصري.
وقال ابن جرير:والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب .
قلت:ولا منافاة بين معنييهما، إذ قد تكون حارة لمجاورتها وَهْج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل و ( حَمِئَةٍ ) في ماء وطين أسود، كما قال كعب الأحبار وغيره.
وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله قال:نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت، فقال: « في نار الله الحامية [ في نار الله الحامية ] ، لولا ما يزعها من أمر الله، لأحرقت ما على الأرض » .
قلت:ورواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون . وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو، من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا محمد - يعني ابن بشر- حدثنا عمرو بن ميمون، أنبأنا ابن حاضر، أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف « تغرب في عين حامية » قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا ( حَمِئَةٍ ) فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها:فقال عبد الله:كما قرأتها. قال ابن عباس:فقلت لمعاوية:في بيتي نـزل القرآن؟ فأرسل إلى كعب فقال له:أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ [ فقال له كعب:سل أهل العربية، فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة ] في ماء وطين. وأشار بيده إلى المغرب. قال ابن حاضر:لو أني عندكما أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة. قال ابن عباس:وإذًا ما هو؟ قلت:فيما يؤثر من قول تُبَّع، فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه:
بَلَــغَ المشَـــارقَ والمغَـارِبَ يَبْتَغِـــي أسْــبَابَ أمْــرٍ مِــــنْ حَكِيمٍ مُرْشِد
فَـــرَأى مَغِيـــبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبها فِـي عَيْـنِ ذِي خُــلب وَثــأط حَرْمَدِ
قال ابن عباس:ما الخُلَب؟ قلت:الطين بكلامهم. [ يعنى بكلام حمير ] . قال:ما الثاط؟ قلت:الحمأة. قال:فما الحرْمَد؟ قلت:الأسود. قال:فدعا ابن عباس رجلا أو غلامًا فقال:اكتب ما يقول هذا الرجل.
وقال سعيد بن جبير:بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ: ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) فقال كعب:والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدًا يقرؤها كما أنـزلت في التوراة غير ابن عباس، فإنا نجدها في التوراة:تغرب في مدرة سوداء.
وقال أبو يعلى الموصلي:حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا هشام بن يوسف قال:في تفسير ابن جريج ( وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ) قال:مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وُجُوب الشمس حين تجب.
وقوله: ( وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ) أي:أمة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم.
وقوله: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ) معنى هذا:أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم، وأظفره بهم وخيره:إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى . فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه
في قوله: ( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ) أي:من استمر على كفره وشركه بربه ( فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) قال قتادة:بالقتل:وقال السدي:كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا. وقال وهب بن منبه:كان يسلط الظلمة، فتدخل أفوافهم وبيوتهم، وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم.
وقوله: ( ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ) أي:شديدًا بليغًا وجيعًا أليمًا. وفيه إثبات المعاد والجزاء.
وقوله: ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ ) أي:تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ( فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ) أي:في الدار الآخرة عند الله، عز وجل، ( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) قال مجاهد:معروفًا.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( 89 ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ( 90 ) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ( 91 ) .
يقول:ثم سلك طريقًا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها ، وكان كلما مرّ بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم، واستباح أموالهم، وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما يستعين به مع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم. وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب. ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى: ( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ ) أي:أمة ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) أي:ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس.
قال سعيد بن جبير:كانوا حُمرًا قصارًا، مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك.
وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا سهل بن أبي الصلت، سمعت الحسن وسئل عن قوله تعالى: ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال:إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم. قال الحسن:هذا حديث سمرة .
وقال قتادة:ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئًا، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم.
وعن سلمة بن كُهَيْل أنه قال:ليس لهم أكنان، إذا طلعت الشمس طلعت عليهم، فلأحدهم أذنان يفترش إحداهما ويلبس الأخرى.
قال عبد الرزاق:أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال:هم الزنج .
وقال ابن جريج في قوله: ( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال:لم يبنوا فيها بناء قط، ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابًا لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل، جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها:لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها. قالوا:لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا:هذه جيفُ جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال:فذهبوا هاربين في الأرض.
وقوله: ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) قال مجاهد، والسدي:علمًا، أي:نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه، لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، فإنه تعالى: لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [ آل عمران:5 ]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( 92 ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا ( 93 ) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ( 94 ) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ( 95 ) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ( 96 )
يقول تعالى مخبرًا عن ذي القرنين: ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) أي:ثم سلك طريقًا من مشارق الأرض. ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادًا، ويهلكون الحرث والنسل، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم، عليه السلام، كما ثبت في الصحيحين: « إن الله تعالى يقول:يا آدم. فيقول:لبيك وسعديك. فيقول:ابعث بَعْثَ النار. فيقول:وما بَعْثُ النار؟ فيقول:من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة؟ فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فيقال:إن فيكم أمّتين، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه:يأجوج ومأجوج » .
وقد حكى النووي ، رحمه الله، في شرح « مسلم » عن بعض الناس:أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخلقوا من ذلك فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم، وليسوا من حواء. وهذا قول غريب جدًا، [ ثم ] لا دليل عليه لا من عقل ولا [ من ] نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب، لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم.
وفي مسند الإمام أحمد، عن سَمُرَة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « وَلَدُ نوح ثلاثة:سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك » . قال بعض العلماء:هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، قال: [ إنما سموا هؤلاء تركًا؛ لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة . وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا طويلا عجيبًا في سير ذي القرنين، وبنائه السد، وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم، [ وطولهم ] وقصر بعضهم، وآذانهم . وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها، والله أعلم.
وقوله: ( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا ) [ أي ] :لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس.
( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ) قال ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس:أجرًا عظيمًا، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سدًا. فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: ( مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) أي:إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [ النمل:36 ] وهكذا قال ذو القرنين:الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني ( بِقُوَّةٍ ) أي:بعملكم وآلات البناء، ( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) والزبر:جمع زُبْرَة، وهي القطعة منه، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وهي كاللبنة ، يقال:كل لبنة [ زنة ] قنطار بالدمشقي، أو تزيد عليه.
( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) أي:وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضًا. واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال. ( قَالَ انْفُخُوا ) أي:أجج عليه النار حتى صار كله نارًا، ( قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسُّدي:هو النحاس. وزاد بعضهم:المذاب. ويستشهد بقوله تعالى: وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [ سبأ:12 ] ولهذا يشبه بالبرد المحبر.
قال ابن جرير:حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال:ذكر لنا أن رجلا قال:يا رسول الله، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: « انعته لي » قال:كالبرد المحبر، طريقة سوداء. وطريقة حمراء. قال: « قد رأيته » . هذا حديث مرسل.
وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه، ووجه معه جيشًا سرية، لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا. فتوصلوا من بلاد إلى بلاد، ومن مُلْك إلى مُلْك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه بابًا عظيمًا، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك. وأن عنده حرسًا من الملوك المتاخمة له، وأنه منيف عال ، شاهق، لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال. ثم رجعوا إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالا وعجائب.
ثم قال الله تعالى:
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ( 97 )
يقول تعالى مخبرًا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله. ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال: ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه، ولا على شيء منه.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم:ارجعوا فستحفرونه غدًا فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس [ حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ] قال الذي عليهم:ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله. ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، [ فترجع وعليها هيئة الدم، فيقولون:قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ] . فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم، فيقتلهم بها » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، إن دواب الأرض لتسمن، وتشكر شكرًا من لحومهم ودمائهم » .
ورواه أحمد أيضًا عن حسن - هو ابن موسى الأشيب- عن سفيان، عن قتادة، به . وكذا رواه ابن ماجه، عن أزهر بن مروان، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قال:حدث رافع. وأخرجه الترمذي، من حديث أبي عوانة، عن قتادة . ثم قال:غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وهذا إسناده قوي، ولكن في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه، لإحكام بنائه وصلابته وشدته. ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار:أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون:غدًا نفتحه. فيأتون من الغد وقد عاد كما كان، فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون كذلك، ويصبحون وهو كما كان، فيلحسونه ويقولون:غدًا نفتحه. ويلهمون أن يقولوا: « إن شاء الله » ، فيصبحون وهو كما فارقوه، فيفتحونه. وهذا مُتَّجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب. فإنه كثيرًا ما كان يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع، فرفعه، والله أعلم.
ويؤكد ما قلناه - من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه، ومن نكارة هذا المرفوع- قول الإمام أحمد:
حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن [ زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها أم حبيبة، عن ] زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قال سفيان:أربع نسوة- قالت:استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه. وهو محمر وجهه، وهو يقول: « لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا » . وحَلَّق. قلت:يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: « نعم إذا كثر الخبث » .
هذا حديث صحيح، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، من حديث الزهري ، ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة، وأثبتها مسلم. وفيه أشياء عزيزة نادرة قليلة الوقوع في صناعة الإسناد، منها رواية الزهري عن عروة، وهما تابعيان ومنها اجتماع أربع نسوة في سنده، كلهن يروي بعضهن عن بعض. ثم كل منهن صحابية ، ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان، رضي الله عنهن.
وقد روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضًا، فقال البزار:حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا مُؤمَّل بن إسماعيل، حدثنا وهيب ، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا » وعقد التسعين. وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب ، به .

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ( 98 ) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ( 99 ) .
وقوله: ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) أي:لما بناه ذو القرنين ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) أي:بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد. ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ) أي:إذا اقترب الوعد الحق ( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) أي:ساواه بالأرض. تقول العرب:ناقة دكاء:إذا كان ظهرها مستويًا لا سنام لها. وقال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [ الأعراف:143 ] أي:مساويًا للأرض .
وقال عكرمة في قوله: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) قال:طريقًا كما كان.
( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) أي:كائنًا لا محالة.
وقوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ] ) أي:الناس يومئذ أي:يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي في قوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:ذاك حين يخرجون على الناس. وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ] عند قوله: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [ الأنبياء:96 ، 97 ] وهكذا قال هاهنا: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) قال ابن زيد في قوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:هذا أول يوم القيامة، ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) على أثر ذلك ( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) .
وقال آخرون:بل المراد بقوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) أي:يوم القيامة يختلط الإنس والجن.
وروى ابن جرير، عن محمد بن حميد، عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بني فزارة في قوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:إذا ماج الإنس والجن قال إبليس:أنا أعلم لكم علم هذا الأمر. فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول: « ما من محيص » . ثم يظعن يمينًا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول: « ما من محيص » فبينما هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ عليه هو وذريته، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازنًا من خزان النار، فقال:يا إبليس، ألم تكن لك المنـزلة عند ربك؟! ألم تكن في الجنان؟! فيقول:ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض عليّ فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه. فيقول:فإن الله قد فرض عليك فريضة. فيقول:ما هي؟ فيقول:يأمرك أن تدخل النار. فيتلكأ عليه، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار. فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مُرسل إلا جثا لركبتيه
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. رواه من وجه آخر عن يعقوب، عن هارون عن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:الجن الإنس، يموج بعضهم في بعض.
وقال الطبراني:حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني ، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا، وإن من ورائهم ثلاث أمم:تاويل، وتايس ومنسك » . هذا حديث غريب بل منكر ضعيف.
وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبيه، عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعًا: « إن يأجوج ومأجوج لهم نساء، يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا »
وقوله: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) :والصور كما جاء في الحديث: « قرن ينفخ » فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام، كما قد تقدم في الحديث بطوله، والأحاديث فيه كثيرة.
وفي الحديث عن عطية، عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعًا: « كيف أنعم، وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، وحنى جبهته واستمع متى يؤمر » . قالوا:كيف نقول؟ قال: « قولوا:حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا »
وقوله ( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) أي:أحضرنا الجميع للحساب قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ الواقعة:49 ، 50 ] ، وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ الكهف:47 ]
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ( 100 ) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ( 101 ) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا ( 102 )
يقول تعالى مخبرًا عما يفعله بالكفار يوم القيامة:أنه يعرض عليهم جهنم، أي:يبرزها لهم ويظهرها، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم.
وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زِمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك [ يجرونها ] »
ثم قال مخبرًا عنهم: ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) أي:تعاموا وتغافلوا وتصاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [ الزخرف:36 ] وقال هاهنا: ( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ) أي:لا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
ثم قال ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ) أي:اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك، وينتفعون بذلك؟ كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [ مريم:82 ] ؛ ولهذا أخبر أنه قد أعدّ لهم جهنم يوم القيامة منـزلا.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ( 103 ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( 104 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ( 105 ) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ( 106 ) .
قال البخاري:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عَمْرو، عن مُصْعَب قال:سألت أبي - يعني سعد بن أبي وقاص- : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) أهم الحَرُورية؟ قال:لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى كفروا بالجنة، وقالوا:لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. وكان سعد رضي الله عنه، يسميهم الفاسقين .
وقال علي بن أبي طالب والضحاك، وغير واحد:هم الحرورية.
ومعنى هذا عن علي، رضي الله عنه:أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نـزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء بل هي أعم من هذا؛ فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [ الغاشية:2- 4 ] وقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الفرقان:23 ] وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [ النور:39 ] .
وقال في هذه الآية الكريمة: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ) أي:نخبركم ( بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) ؟ ثم فسرهم فقال: ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي:عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، ( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) أي « يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون.»
وقوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ) أي:جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) أي:لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير .
قال البخاري:حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا المغيرة، حدثني أبو الزَّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة » وقال: « اقرؤوا إن شئتم: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) .»
وعن يحيى بن بُكَيْر، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، مثله .
هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا . وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق، عن يحيى بن بكير، به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن صالح مولى التَّوْأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم، فيوزن بحبة فلا يزنها » . قال:وقرأ: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا )
وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي الصلت، عن أبي الزناد، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعًا فذكره بلفظ البخاري سواء.
وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار:حدثنا العباس بن محمد، حدثنا عون بن عُمَارة حدثنا هشام بن حسان، عن واصل، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له. فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يا بريدة، هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنًا » .
ثم قال:تفرّد به واصل مولى أبي عنبسة وعون بن عُمَارة وليس بالحافظ، ولم يتابع عليه. وقد قال ابن جرير أيضًا:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن شمر عن أبي يحيى، عن كعب قال:يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) .
وقوله: ( ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا ) أي:إنما جازيناهم بهذا الجزاء جهنم، بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوًا، استهزءوا بهم، وكذبوهم أشد التكذيب.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا ( 107 ) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ( 108 )
يخبر تعالى عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوهم فيما جاؤوا به بأن لهم جنات الفردوس.
قال مجاهد:الفردوس هو:البستان بالرومية.
وقال كعب، والسدي، والضحاك:هو البستان الذي فيه شجر الأعناب.
وقال أبو أمامة الفردوس:سرة الجنة.
وقال قتادة:الفردوس:ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها.
وقد روي هذا مرفوعًا من حديث سعيد بن بشير ، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « الفردوس ربوة الجنة، أوسطها وأحسنها »
وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة مرفوعًا. وروي عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعًا بنحوه. وقد نقله ابن جرير، رحمه الله
وفي الصحيحين: « إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تُفَجَّرُ أنهار الجنة »
وقوله: ( نـزلا ) أي ضيافة، فإن النـزل هو الضيافة.
وقوله: ( خَالِدِينَ فِيهَا ) أي:مقيمين ساكنين فيها، لا يظعنون عنها أبدًا، ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ) أي:لا يختارون غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر
فَحَّـلْت سُـوَيدا القَلْـب لا أنَـا بَاغيًـا ســواها ولا عَــنْ حُبّهـا أتَحـوّلُ
وفي قوله: ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ) تنبيه على رغبتهم فيها، وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ( 109 ) .
يقول تعالى:قل يا محمد:لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وحكمه وآياته الدالة عليه، ( لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) أي: [ لفرغ البحر ] قبل أن يفرغ من كتابة ذلك ( وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ ) أي:بمثل البحر آخر، ثم آخر، وهلم جرا، بحور تمده ويكتب بها، لما نفدت كلمات الله، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ لقمان:27 ] .
قال الربيع بن أنس:إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنـزل الله ذلك: ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) .
يقول:لو كان البحر مدادا [ لكلمات الله ] ، والشجر كله أقلام ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة ، كحبة من خردل في خلال الأرض [ كلها ] .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( 110 ) .
روى الطبراني من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن قيس الكوفي، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال:هذه آخر آية أنـزلت .
يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ ) لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) فمن زعم أني كاذب، فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، مما هو مطابق في نفس الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وأنا أخبركم ( أَنَّمَا إِلَهُكُمْ ) الذي أدعوكم إلى عبادته، ( إِلَهٌ وَاحِدٌ ) لا شريك له، ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ ) أي:ثوابه وجزاءه الصالح، ( فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا ) ، ما كان موافقًا لشرع الله ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل. لا بد أن يكون خالصًا لله، صوابُا على شريعة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر، عن عبد الكريم الجَزَري، عن طاوس قال:قال رجل:يا رسول الله، إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا. حتى نـزلت هذه الآية: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) .
وهكذا أرسل هذا مجاهد، وغير واحد.
وقال الأعمش:حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم، عن شَهْر بن حَوْشَب قال:جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال:أنبئني عما أسألك عنه:أرأيت رجلا يصلي، يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحْمَد، ويصوم ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويتصدق ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويحج ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، فقال عبادة:ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: « أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه » .
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، ثنا كثير بن زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده قال:كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبيت عنده، تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل، فيبعثنا. فكثر المحتسبون وأهل النُّوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ما هذه النجوى؟ [ ألم أنهكم عن النجوى ] . قال:فقلنا:تبنا إلى الله، أي نبيّ الله، إنما كنا في ذكر المسيح، وفرقنا منه، فقال: » ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟ « قال:قلنا:بلى. قال: » الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل « . »
وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بَهْرَام- قال:قال شَهْر بن حَوْشَب:قال ابن غنم:لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء، لقينا عبادة بن الصامت، فأخذ يميني بشماله، وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى، والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت:إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما، لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين - يعني من وسط- قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه، وأحل حلاله وحرم حرامه، ونـزل عند منازله، لا يَحُورُ فيكم إلا كما يَحُور رأس الحمار الميت. قال:فبينما نحن كذلك، إذ طلع شداد بن أوس، رضي الله عنه، وعوف بن مالك، فجلسا إلينا، فقال شداد:إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من الشهوة الخفية والشرك » . فقال عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء:اللهم غفرًا. أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. وأما الشهوة الخفية فقد عرفناها، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد:أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل، أو يصوم لرجل، [ أو تصدق له، أترون أنه قد أشرك؟ قالوا:نعم، والله إنه من صلى لرجل أو صام له ] أو تصدق له، لقد أشرك. فقال شداد:فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يقول ] :من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك؟ « فقال عوف بن مالك عند ذلك:أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله، فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عن ذلك:فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: » إن الله يقول:أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئًا فإن [ حَشْده ] عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني « .»
طريق [ أخرى ] لبعضه:قال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني عبد الواحد بن زياد، أخبرنا عبادة بن نُسيّ، عن شداد بن أوس، رضي الله عنه، أنه بكى، فقيل له:ما يبكيك؟ قال:شيء سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله [ فذكرته ] فأبكاني، سمعت رسول الله يقول: « أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية » . قلت:يا رسول الله، أتشرك أمتك [ من بعدك؟ ] قال: « نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا، ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائمًا فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه .»
ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذَكْوَان، عن عبادة بن نُسيّ، به . وعبادة فيه ضعف وفي سماعه من شداد نظر.
حديث آخر:قال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا الحسين بن عليّ بن جعفر الأحمر، حدثنا عليّ بن ثابت، حدثنا قيس بن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله يوم القيامة:أنا خير شريك، من أشرك بي أحدًا فهو له كله » .
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت العلاء يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه، عز وجل، أنه قال: « أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك » . تفرّد به من هذا الوجه .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد - يعني ابن الهاد- عن عمرو، عن محمود بن لبيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » . قالوا:وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: « الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم:اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء »
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن بكر أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر- أخبرني أبي، عن زياد بن ميناء، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - وكان من الصحابة- أنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد:من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك » .
وأخرجه الترمذي وابن ماجه، [ من حديث محمد بن ] بكر وهو البُرساني، به
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا بكار، حدثني أبي - يعني عبد العزيز بن أبي بكرة - عن أبي بكرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به » .
وقال الإمام أحمد:حدثنا معاوية، حدثنا شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به » .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني عمرو بن مرة، قال:سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة؛ أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من سَمَّع الناس بعمله سَمَّع الله به، سامع خلقه وصغره وحقره » [ قال ] :فذرفت عينا عبد الله .
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي، حدثنا الحارث بن غسان، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أنس، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة في صحف مختومة ، فيقول الله:ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة:يا رب، والله ما رأينا منه إلا خيرًا. فيقول:إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي » .
ثم قال الحارث بن غسان:روى عنه جماعة وهو بصري ليس به بأس
وقال ابن وهب:حدثني يزيد بن عياض، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن قيس الخزاعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قام رياء وسمعة، لم يزل في مقت الله حتى يجلس » .
وقال أبو يعلى:حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا محمد بن دينار، عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص، عن عوف بن مالك، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه، عز وجل » .
وقال ابن جرير:حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكوني، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا ابن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس الكندي؛ أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) وقال:إنها آخر آية نـزلت من القرآن.
وهذا أثر مشكل، فإن هذه الآية [ هي ] آخر سورة الكهف. والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينـزل بعدها ما تنسخها ولا يغير حكمها بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة، فروى بالمعنى على ما فهمه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا أبو قُرَّرة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ في ليلة: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) ، كان له من نور، من عدن أبين إلى [ مكة ] حشوه الملائكة غريب جدا.»