استقلال القضاء و المحاماة في الوطن العربي
15- قانون السلطة القضائية و قضاة مصر: و الطامة الكبرى. قضاء مصر و قضاته. أول قضاء مستقل في تاريخ العالم العربي. قضاء حفظ في ذاكرته صمود رئيس مجلس الدولة المصري، فقيه القانون المصري، و عميد الفقه العربي، في مواجهة قادة ثورة 1952. رمز قوة القضاء على الصعيد العربي. أقوى ناد للقضاة العرب. ذلك النادي الذي صفع أحد أعضائه رئاسة الجمهورية المصرية بمناسبة انعقاد مؤتمر العدالة الأول في القاهرة، عندما نعتت هذه الأخيرة القضاء بالبطء، فما كان بالقاضي، المستقل و القوي، إلا أن رد قائلا: "وقضاة مصر، يا سيادة الرئيس، وان كان لهم أن يفخروا بأنهم نهضوا وينهضون بأعبائهم على خير وجه، وبأنهم قاموا ويقومون بكل ما توحي به ضمائرهم، من انقطاع لفرائض العدل، والصبر على مناسكه، متفانين في أداء رسالته، مهما أرهقهم العمل وأضناهم الجهد، غير متوانين عن مواصلة البذل ما وسعتهم الطاقة، فانهم في الوقت ذاته، لا يرضون لأنفسهم ولا للناس تحت أي ظرف من الظروف، أن يضحوا باعتبارات العدالة في سبيل وفرة ترجى في الأحكام أو سرعة مطلوبة للفصل في المنازعات". هذا الموقف الذي ربما يؤدي قضاة مصر فاتورته بعد عشرين سنة. ذلك القضاء الذي ناضل من أجل استقلاله و مازال. ذلك القضاء الشامخ الذي يؤدي ثمن نزاهته في الإشراف على الانتخابات. ذلك القضاء الذي توبع اثنين من قضاته، و انتهكت السلامة الجسدية لأحد رجاله، لا لشيء إلا لأنهم فضحوا تزوير الانتخابات في مصر. ذلك القضاء الذي دافع جاهدا عن مشروع قانون السلطة القضائية الذي أعده نادي قضاة مصر و تبناه بالإجماع، إلا أن الحكومة المصرية رفضته لأنه يمنع وصايتها عليه. ذلك القضاء الذي وضع إشرافه على الانتخابات في كفة، و تبني مشروع القانون المذكور في كفة ثانية. ذلك القضاء الذي منع ناديه من عقد جمعيته العمومية الاستثنائية في دار القضاء العالي بالقاهرة لأن البناية ملك للدولة. ذلك القضاء الذي اضطر أعضاء ناديه إلى عقد جمعيتهم العمومية الاستثنائية في شوارع القاهرة، و هم القضاة ممثلوا إحدى السلط الثلاث في الدولة. ذلك القضاء الذي أمر مدعيه العام قضاة الإدعاء فيه بعدم ترك أماكن عملهم يوم انعقاد الجمعية المذكورة. ذلك القضاء الذي هدد بمقاطعة الانتخابات إذا لم تستجب السلطة للمطالب الكفيلة باستقلال القضاء. ذلك القضاء الذي أشرف رغم كل ذلك على الانتخابات موفيا واجبه الأخلاقي قبل التزامه القانوني، دون أن تتحقق أي من مطالبه بشأن استقلاله !!
16- المقررات القضائية و وزارة العدل المغربية: و إذا انتقلنا للمغرب، تبدى استقلال القضاء جليا بادئ ذي بدء من خلال ما توحي به نسخ المقررات القضائية، باستثناء تلك الصادرة عن المجلس الأعلى، من كون القضاء مجرد مديرية أو مصلحة إدارية ملحقة بوزارة العدل. ذلك أن المقررات القضائية المذكورة تحرر في الواقع على أوراق تعلوها في الجانب الأيمن العبارات التالية: "المملكة المغربية – وزارة العدل"، ثم تليهما الإشارة إلى المحكمة المصدرة للمقرر، و الدائرة القضائية التي تنتمي إليها عند الاقتضاء. أ فمن المقبول أن تنسب المقررات القضائية، و لو شكليا، إلى وزارة العدل التي تمثل السلطة التنفيذية؟ أم أن ذلك هو مقابل تحمل الدولة للأعباء المالية للعدالة؟
17- الاستقلال المالي للقضاء المغربي: كما يشكل إدماج ميزانية قطاع العدالة في الميزانية العامة للدولة، برهانا واضحا على تحقق استقلال القضاء عن وصاية السلطة التنفيذية. و خير دليل على ذلك أن وزارة العدل من يعلن عن تنظيم مباراة الملحقين القضائيين التي تعتبر بداية الطريق في السلك القضائي، و التي تتقيد في ذلك بعدد المناصب المالية التي تمنحها الحكومة، من خلال وزارة المالية، لقطاع العدالة. و لكن العائق يكمن أحيانا في أسباب أخرى، قد تكون الحكومة وراءها، بغض النظر عن وجود المناصب المالية من عدمه. و هذا هو الواقع المعيش منذ أربع سنوات، تاريخ تنظيم آخر مباراة للملحقين القضائيين في المغرب. أ فمن المقبول أن تتوقف المباراة لأربعة أعوام كاملة؟ ثم أ يقبل أن يظل المعهد العالي للقضاء بدون ملحقين قضائيين منذ منتصف السنة الماضية، تاريخ تخرج آخر فوج للقضاة؟
18- شل عمل الودادية الحسنية للقضاة المغربية: و يعكس استقلال قضاء المغرب من ناحية أخرى، أن الودادية الحسنية للقضاة، و هي بمثابة نادي القضاة في المغرب، قد تم تجميد نشاطها و تعطيل دواليب العمل بها ردحا من الزمان غير قليل. ما السبب وراء ذلك؟ التعليق حر علما أن الودادية أنشئت من أجل سد الثغرة التي خلقها عدم جدوى المجلس الأعلى للقضاء في الدفاع عن مصالح القضاة و حمايتهم.
19- شروح وزارة العدل المغربية و دلائلها: ثم ينتقل بنا الحديث إلى مظهر آخر للاستقلال. تدخل بصفة غير مباشرة في أمور القضاء، و في الاختصاصات الأصيلة للسلطة القضائية من حيث تطبيق القانون و تفسيره. يتعلق الأمر بمجموعة الشروح النظرية و الدلائل العملية التي دأبت وزارة العدل على إصدارها منذ مدة. شروح و دلائل اختفت قبل حين، و لكنها عادت للظهور في الآونة الأخيرة، خاصة بعد صدور مدونتي الأسرة و المسطرة الجنائية. و المشكل أن مراجعة هذه الكتب و طريقة تحريرها، يعكسان توجيها خفيا للمحاكم في طريقة تفسير التشريع و تطبيقه، يجعل القضاة شبه خاضعين لسلطة هذه الدلائل في صميم عملهم القضائي. لا أحد يناقش حق الفقه في تفسير القانون. و لكن الوزارة ليست فقها، و لا شخصا مؤهلا لتفسير القانون. و لا أحد ينكر من جهة أخرى الفائدة العلمية التي تضيفها هذه الشروح، و الأهمية العملية التي تحملها تلك الدلائل. و لكن لو أرادت الوزارة فعلا، و من خلالها الحكومة، تقديم يد العون للقضاء في تفسير القانون، و مساعدة رجاله في فهم مقاصده، فحري بها أن تعمل على إخراج الأعمال التحضيرية للتشريع المغربي إلى سوق الكتب القانونية، و أن تعمل على نشرها عوض إبقائها حبيسة الرفوف المهجورة لخزانات البرلمان، و رهينة التقارير السرية المنجزة في دواليب الوزارات. هكذا تضمن الحكومة حسن تفسير القانون بكل حياد. و لكن، قبل ذلك، أتلك الأعمال موجودة فعلا؟
20- تصريحات إعلامية لوزير عدل مغربي: و يزكي هذا المظهر تجرؤ الحكومة، بواسطة وزير العدل، على تحديد الأجل الأقصى الذي ستبت فيه المحاكم في بعض الدعاوى، كما وقع في مستهل صيف سنة 2003، عندما ظن وزير العدل، بموجب تصريح خص به إحدى القنوات المرئية الوطنية، أن المحاكم المغربية ستكون قد انتهت من محاكمة المسؤولين عن أحداث 16 ماي، قبل نهاية موسم الصيف؟؟؟ الحمد لله أن نبوءة الوزير لم تتحقق، و إلا لتأكد بما لا يدع مجالا للشك، مدى استقلال القضاء في المغرب.
21- انتداب القضاة المغاربة: و بعد ذلك ترسخ ممارسة سلطة الانتداب ثقافة استقلال القضاء المغربي. صحيح أن من بين وزراء العدل المغاربة من قدروا الطابع الاستثنائي لحكم المادة 57 من النظام الأساسي لرجال القضاء، و تمكنوا قبل ذلك من فهم مقتضياته، و عرفوا، كرجال قانون مهمتهم تفسيره، كيفية التعامل معه، و أدركوا أن إعمال حكمه يفترض توفر عدد من الشروط القانونية. و لكن من بينهم من لم يقدر و لم يفهم، فلم يعرف و لم يدرك. فأقبل على الانتداب دون وجود حاجة، و لا لملء فراغ. عفوا ! إلا أن يكون الغرض من الانتداب آخر، لا وجود حاجة و لا ملء فراغ؟ ففي هذه الحالة، فقد أدرك الوزير و كان متيقنا، و رغم ذلك قرر فانتدب. و لكن، من يجرؤ على مساءلته؟ و ليت الأمر توقف عند هذا الحد، ذلك أن حضرة الوزير لجأ للانتداب أثناء انعقاد المجلس الأعلى للقضاء.
فأي سلطة يا مجلس تمارس، و الوزير ينتدب و أنت منعقد ؟
22- اعتقال القضاة و قواعد الامتياز القضائي في المغرب: ثم تأتي الحكمة في أبهى صورها لتزكي استقلال القضاء. فحسب تصريحات المعنيين بالأمر، و دفاعهم، وما ورد في وسائل الإعلام وقتها: قضاة يستدعون لوزارة العدل. دخلوا الوزارة متسائلين عن سبب الزيارة. منهم على الأرجح من استبشر خيرا، و فيهم ربما من توجس خيفة. ثم تأتي المفاجأة. غادروا الوزارة فعلا، و لكن معتقلين. واجهوا هناك اتهامات بالارتشاء. المواطنون سواسية أمام القانون، و كل مخالف معرض للمساءلة و العقاب: أمر لا يناقش. و لكن ليس بهذه الطريقة تضع الدولة السيدة المتسلطة المهابة يدها على المجرمين. كما أن العقاب تسبقه إجراءات تعبد طريق الوصول إليه. و المجرمون من القضاة، يستفيدون رغم كونهم مذنبين، من مسطرة الامتياز القضائي التي تمنع متابعة قاض وفق الإجراءات العادية للمتابعة الزجرية. و لكن الجهات المسؤولة لم تكتف بالمتابعة المعيبة، بل تجاوزتها للاعتقال. ثم، أليس هذا النوع من الاعتقال التحكمي جريمة يعاقب عنها التشريع الزجري المغربي؟ فمن تابع المسؤولين عنه؟ أم أن
الاجتهاد في تأويل أحكام التشريع، بل و تمطيط النصوص و التوسع في تفسيرها، لا يفيد إلا إذا كان المراد منه تبرير اعتقال القضاة بدون احترام الإجراءات القانونية المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية، على أساس أن الإجراءات المذكورة لا تطبق إلا أمام المحاكم العادية، دون المتخصصة؟
23- حصانة أعضاء المجلس الأعلى للقضاء: و مسك الختام في توضيح مدى استقلال قضاء المغرب، نتيجة انتفاضة قضاته ضد طريقة اعتقال زملائهم. وقعوا عريضة شجب و تنديد ضمنوها استنكارهم لخرق القانون مستندين إلى تفسيرهم للأحكام القانونية المنظمة للامتياز القضائي. و من بين الموقعين، و قيل زعيمهم، عضو في المجلس الأعلى للقضاء. فما كان بالسلطة التنفيذية إلا أن شرعت في فتح المسطرة التأديبية ضد القاضي المعني، ممثل القضاة. بل و عملت على منعه من ممارسة مهامه التي انتخب من أجلها. فلم تشفع له لا صفته القضائية و لا صفته التمثيلية. و إنما الذي شفع له هو تضامن بعض الهيئات القضائية في الغرب حسبما ورد في الإعلام وقتها.
أ فيكون العزاء على الأقل أن هذه المتابعة أثبتت أن لا محل للمجاملة
و لا لاعتبارات الزمالة بين القضاة على حساب القانون؟
أم يكون الواقع أنها أثبتت أن استقلال العدالة الذي يتحدث عنه النظام المغربي،
و هو في ذلك كغيره من النظم العربية،
ضــرب مــن الــخــيــال و كــتــلــة مــن الأوهــام؟
منتديات تونيزيا كافيه forum tunisia cafe
مع تحيات منتديات تونيزيا كافيه
http://www.tunisia-cafe.com/vb/index.php