الجزء الثاني تحت عباءة أبي العلاء المعري لنجيب سرور - لتلميذ البكالوريا




بكالوريا اداب

تحت عباءة أبي العلاء
نجيب سرور
هذا مخطوط نادر وقيم للشاعر المصري الراحل نجيب سرور تناول فيه بعض الجوانب لــــ أبي العلاء المعري, ونقدمه بمنتديات تونيزيا كافيه لتلاميذ السنة الرّابعة اداب ليكون لهم عونا لهم في دراستهم
النجاح والتوفيق لجميع تلاميذ البكالوريا - بكالوريا اداب



الجزء الثاني تحت عباءة أبي العلاء المعري لنجيب سرور - لتلميذ البكالوريا - لتلميذ البكالوريا
مع تحيات منتديات تونيزيا كافي

http://www.tunisia-cafe.com


الفصل الرابع

حملة أبي العلاء على الماسونية


"لقد اتهمتُ في مناسبات مختلفة بأنني متشائم، وهكذا أنا فيما يتعلق بعدم إيماني بأن المثُل الإنسانية العليا مطلقة. ولكنني في الوقت ذاته متفائل فيما يتعلق بإيماني التام المطرد بقدرة المثل العليا على الذيوع والتطور"! هنريك إبسن

استطرادا فيما سبق من حديث، وقبل أن نصل إلى قصة الماسونية والموسوية واليهودية كما يتلوها الإمام الضرير في رسالة الغفران وغيرها من أعماله النثرية والشعرية، يحسن بنا أن نتأمل الأبيات التالية التي نتعمد أن نستبق بها الحديث ـ وإن كنا سنعاود الرجوع إليها في أمكنة أخرى ـ لكي نعد أنفسنا ونعد القارئ الذكي للولوج إلى عالم أبي العلاء، فسوف نلقى في هذا العالم ـ كما يلقى أبطال الأساطير أشياء وكائنات ورموزا وطلاسم خرافية ومهولة يجب مع ذلك ألا تغرينا بالهرب من هذا العالم أو بالزهد أو الكسل أو الجبن أمام صاحب هذا العالم!

تقادم عمر الدهر حتى كأنمـــا
نجوم الليالي شيب هذي الغياهـب
يهودُ باغي الحاج والليلُ مسلــم
على كُفره والأرضُ في زي راهب
تألفُ غي الناس شرقا ومغـــربا
تكامل فيهم باختلاف المذاهـــب

داء الحياة قديم لا دواء لــــه
لم يخل بقراط من سقم وأوصـاب
تلك اليهودُ فهل من هائد لهـُمُ
والصابئون وكل جاهل صابي [6]

استنبط العُرب لفظا وانبرى نبط
يخاطبونك من أفواه أعــراب
كلمتُ باللحن أهل اللحن أنفُسهُم
لأن عيبي عند القوم إعرابــي

فلنقف هنا قليلا لنذكر قول أبي تمام:

لمدينة عجماء قد أمسى البلي
فيها خطيبا باللسان المعـرب

وقوله أيضا:

سكن الكيد فيهم إن من أعظم
إرب ألا يُسمى أريبـــــا
مكرُهُم عندهُ فصيح وإن هُـم
خاطبوا مكرهُ رأوهُ جليبـــا

ثم قول المتنبي:

ولكن الفتى العربي فيهــا
غريب الوجه واليد واللسان

وقوله:

ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمـان

ثم نرجع إلى أبي العلاء:

ترائبي وهي مغنى السر ما علمت
به لدى فهل نالته أترابـــــي

كل الذي تحكون عن مولاكـــمُ
كذب أتاكم عن يهود يُحــــبرُ
رامت به الأحبارُ نيل مـــعيشة
في الدهر والعملُ القبيح يتبـرُ

من أعجب الأشياء في دهـرنا
والله لا ناس ولا والــــثُ
اثنان باتا في فراش معــــا
فأصبح بينهما ثالــــــثُ

ولحب الصحيح آثرت الـرومُ
إنتساب الفتى إلى أمهاتـــه
جهلوا من أبوهُ إلا ظُنـــونا
وطلا الوحش لاحق بمهاتــه

فما أمنت نسوان قوم أعــزة
على عزها أن تستباح فروجها

وهل أبيحت نساء القـوم عن عُرض
للعُرب إلا بأحكام النبــــــوات

وقد كذب الصحيح بلا ارتيـــاب
فهل صدق الأصم أو الأشـــج [7]

ولا تقبلوا من كاذب متســوق
تحيل في نصر المذاهب واحتجا

وكفرها ليل ترهب شُبهـــــه
تخال يهودا عاق عن سيرها السبتُ

إذا افتكر الإنسان في أمر دينه
بدا نبأ يثني الحجى وبه كبـتُ
فهل خبر عن أنفس بان وفدها
إلى اله معمور بأجسامها الخبتُ

فما عذري وعند الله علمي
إذا كذبت قوائل مسنـداتُ

ولعل عكسا في الليالي كائن
فتعود في الشرفات متضعاتها

ولا تطلبن اللباب الصريح
فقد سيط عالمنا وامــتزج

أرى هذيانا طال في كل أمـة
يضمنه إيجازها وشروحـها

ومن تأمل أقوالي رأى جُمـلا
يظل فيهن سر الناس مشروحا

ولقد علم المنجم ما يوجـب
للدين أن يكون صريحـــا

قد نُسخ الشرع في عصورهــم
فليتهم مثل شرعهم نُسخـــوا

وجدنا إتباع الشرع حزما لذي النهى
ومن جرب الأيام لم ينكر النســخا
فما بالُ هذا العصر ما فيه آيــــة
من المسخ إن كانتُ يهودُ رأت مسخا

فإن كنت ذا لب متين فلا تقــس
بحمصك والميماس دجلة والكرخا

لعل نجوم الليل تعمل فكرها
لتعلم سرا فالعيون سواهـدُ

عفاة القوافي كالذي ولُماتهــا
إذا هن لم يوصلن فاللفظ فاسدُ

لو يفهم الناسُ ما أبنائهم جلب
وبيع بالفلس ألف منهُمُ كسدوا

والناس في الأرض أجناس مُقلدة
كالهدى قُلد لم يذعرهُ تهــــديدُ

سر قديم وأمر غير متضح
فهل على كشفنا للحق إسعادُ

أليس قريشكم قتلت حسينا
وصار على خلافتكم يزيـدُ

كن من تشاء مهجنا أو خالصا
وإذا رزقت غني فأنت السيدُ

قد شيد القصر لسكانه
وغير من يسكنه الشائد

يجمع الجنس شريفا ولقى
كحديد منه سيف وجلـم

كفانا هذا مؤقتا!!

وهنا أذكر أن للعقاد كتابا بعنوان "إبليس" وعد في مقدمته بأن يختمه بفصل عن "الماسونية"..ولكن الكتاب صدر بدون هذا الفصل ونسي حاذفهُ الإشارة الواردة عنه في المقدمة، فمن الذي حذف ولحساب من؟!

ثم نرجع إلى أبي العلاء:

إن أكلتم فضلا وأنفقتم فضلا
فلا يدخلن وال عليكـــم
لا تولوا أموركم أيدي الناس
إذا رُدت الأمورُ إليكـــم

أما الخطاب هنا فواضح أنه موجه إلى الكتيبة الخرساء.

نعم..الحذر كل الحذر من السلطة!

وهجن لذات الملوك زوالها
كما غدرت بالمنذرين الهجائنُ

تشابه النجر فالرومي منطقـه
كمنطق العُرب والطائي مرطانُ

والسر ليس بمخزون على أحد
لكن تكاثر للأموال خُــــزانُ

إذا فاتهم طعن الرماح فمحفل
ترى فيه مطعونا عليه وطاعنـا

أحلل بمن شئت لا يعدمك نائبة
خان اليمانون طرا والشامونــا

ثم ننتقل إلى رسالة الغفران لنسمع بعضا من قصة الماسونية على لسان الجني "الخيتعور، أحد بني الشصبان" والذي كنيته "أبو هدرش" والذي نؤكد هنا أن العقاد استوحى منه قصيدته الشهيرة "ترجمة شيطان" والذي يقول لابن القارح عندما سأله: "يا أبا هدرش، مالي أراك أشيب وأهل الجنة شباب؟"

"إن الإنس أُكرمُوا بذلك وأُحرمناهُ، لأنا أُعطينا الحُولة (أي القدرة على التغير والتحول والتقمص) في الدار الماضية، فكان أحدنا إن شاء صار حية رقشاء، وإن شاء صار عُصفورا، وإن شاء صار حمامة (أي أنهم في جميع الأجناس والأنواع والأشكال)، فمُنعنا التصور في الدار الآخرة، وتُركنا على خلقنا لا نتغيرُ، وعُوض بنو آدم كونهم فيما حسُن من الصور. وكان قائلُ الإنس يقُولُ في الدار الذاهبة: أُعطينا الحيلة وأُعطى الجن الحوُلة. ولقد لقيت من بني آدم شرا، ولقُوا مني كذلك. دخلت مرة دار أُناس أُريد أن اصرع فتاة لهم، فتصورتُ في صورة عضل ـ أي جُرذ ـ فدعوا لي الضياون (جمع ضيون، وهو السنور الذكر)، فلما أرهقتني تحولت صلا أرقم، ودخلتُ في قطيل (المقطوع من أصل جذع) هناك. فلما علموا ذلك كشفوه عني. فلما خفتُ القتل صرتُ ريحا هفافة فلحقتُ بالروافد، ونقضُوا تلك الخُشُب والأجذال (الباقي من الأشجار بعد ذهاب فروعها) فلم يروا شيئا. فجعلوا يتفكنون (يتعجبون ويتفكرون) ويقولون: ليس ها هنا مكان يُمكنُ أن يستتر فيه. فبينما هُم يتذاكرون ذلك، عمدتُ لكعابهم في الكله (الناموسية)، فلما رأتني أصابها الصرعُ، واجتمع أهلُها من كُل أوب، وجمعوا لها الرقاة، وجاءُوا بالأطبة وبذلوا المُنفسات، فما ترك رافد رُقية إلا عرضها على وأنا لا أُجيبُ، وغبرت الأُساةُ تسقيها الأشفية وأنا سدك بها لا أزولُ؛ فلما أصابها الحمامُ طلبت لي سواها صاحبة، ثم كذلك حتى رزق الله الإنابة وأثاب الجزيل، فلا أفتأ له من الحامدين".

أما كيف رزقه الله الإنابة والتوبة بعد هذا كله فهو مالا يقوله أبو العلاء، وإن كان يقول في مكان آخر من رسالته بأن الآخرة كالأولى كل شيء فيها بأرزاق!

ما علينا..فالمهم أنه يثبت هنا قدرة "الجن" على التحول والانقلاب والتنكر والتستر والخبث والمكر، ثم يعود فيذكر أشعارا لنفس الجني ـ أبي هدرش ـ فيثبت بها أشياء أخرى كثيرة وهامة، ولن أورد تلك الأشعار بنصها هنا لضيق النطاق، ثم لأن القارئ الذكي يمكنه أن يرجع إليها كاملة في رسالة الغفران، والمهم فيها أن الجني مر بقرطبة وبالصين ويركب ذكر النعام تارة وثورا وحشيا تارة أخرى، ويحضر مجالس الشرب والطرب لينشر فيها ومن خلالها الفساد الذي يسر له إبليس، ويصرف بالختل الشهود العدول عن الأمانة إلى أن يخونوا ويشهدوا الزور، ويصرع من شاء وما شاء من النساء والأمهات، وأنه قديم قدم الأزل، فقد مر حتى بنوح الذي ذاده عن سفينته ضربا وطردا حتى كسرت ساقه، وأنه طار ونجا في زمن الطوفان، وأنه مر بموسى وهو يرعى غنم شعيب، وأنه حدث موسى ووسوس له، وأنه أضل رأي أبي ساسان ـ جد دولة الطبقة الرابعة من ملوك الفرس المعروفة بالساسانية ـ، وأنه سار مستخفيا في جيش سابور ـ وهو ابن أردشير حفيد ساسان بن بابك ثاني ملوك الدولة الساسانية الفرسية ـ، وأنه قلد السلطة لتابعه بهرام جور بن يزدجرد ملك الفرس وباني مدينة جور، ووضع التاج على رأسه ! وأنه مرة صل ـ والصل أو الثعبان أو الأفعى هو رمز الماسونية منذ أقدم العصور ـ، ومرة أخرى عصفور ـ كما قال قبل ذلك ـ إلى أن يقول:

تلوحُ لي الإنس عُورا أو ذوي حول
ولم تكُن قط، لا حُولا ولا عُــورا

إلى أن يذكر توبته الكاذبة مرة ثانية، وإن كان لم يذكر كيف تاب وكيف رزق الخلد! فالأرزاق على الله كما يقولون والله لن يغفر لهم ولو استغفرت أنت لهم سبعين أو سبعين ألف أو مليون مرة! على أنه يتحتم علينا أن نذكر قول أبي هدرش هذا لابن القارح: "إنا أهلُ ذكاء وفطن، ولابُد لأحدنا أن يكون عارفا بجميع الألسُن الإنسية، ولنا بعد ذلك لسان لا يعرفهُ الأنيسُ" أي لسان خاص لا يعرفه سوانا، نتحاور به فيما بيننا، أما المعرفة بجميع الألسنة فمما يلزمهم لإمكان التغير والتحول والتصور بحيث شملوا البشرية والعالم في كل زمان!

ثم يدور بين الجني وابن القارح حديث طويل عن قصة الرجم ـ رجم النجوم ـ وهل كان الرجم في الجاهلية أم كان في الإسلام كما يقول بعضهم. وكيف أنه زاد في أوان المبعث بالذات "..وإن التخرص لكثير في الإنس والجن، وإن الصدق قليل..". والأهم من ذلك كله أن أبا هدرش هذا هو الذي أنذر الجن بالكتاب المنزل حين كان في رفقة تريد اليمن فمروا بيثرب فسمعوا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، ويزعم أنهم آمنوا به، وعاد إلى قومه فذكر لهم ذلك "فتسرعت منهم طوائفُ إلى الإيمان، وحثهُم على ما فعلوه أنهم رُجموا عن استراق السمع بكواكب مُحرقات"..يريد أبو العلاء أن يقول إنهم تسللوا إلى الإسلام كما تسللوا إلى سائر العقائد من قبل ومن بعد!!

ثم يعود أبو هدرش إلى الشعر فيقدم فيه ثبتا طويلا بأفعاله الجهنمية قبل المبعث وإبانه وبعده، فكم عروس ـ على حد اعترافه ـ:

غرتُ عليها، فتخلجتُهــــا
بواشك الصرعة قبل المسيس
وأسلُكُ الغادة محجــــوبة
في الخدر، أو بين جوار تميس

إلى أن يقول:

تحملُنا في الجُنح خيل لهـا
أجنحة، ليست كخيل الأنيس

وبعد ذلك مباشرة يتخفى أبو العلاء في ثوب الجني أبي هدرش نفسه ليخاطب كتيبته الخرساء ناصحا إياها بأن تلزم تكتيك الجان هي أيضا لكي تهزمهم بسلاحهم وبطرائقهم وبأسلوبهم:

لا نُسك في أيامنا عندنــا
بل نُكس الدينُ فما إن نكيس
فالأحدُ الأعظمُ والســــبتُ
كالاثنين، والجُمعةُ مثل الخميس
لا مجُس نحنُ ولا هُــــود
ولا نصارى يبتغون الكنيــس نُمزقُ التوراة من هُونــــها
ونحطمُ الصلبان حطم اليبيـس
نُحاربُ الله جُنودا لإبليـــس
أخي الرأي الغبين النجيــس
نُسلمُ الحكم إليـــــه ـ إذا
قاس، فنرضى بالضلال المقيس

فيظن القارئ المتعجل أن الذي ما زال يتكلم هو أبو هدرش مع أنه أبو العلاء يتكلم إلى كتيبته الخرساء ثم يتكلم بلسانها. إنه بمنهج التعاكس يلزمهم هنا بما لا يلزم من الكفر والزندقة والإلحاد والخبث والمكر الخ، لكي يلزمهم بما يلزم وهو الإيمان والتوحيد. فلا يفل المكر غير المكر بالمكر. إن على أعضاء الكتيبة أن يخفوا إيمانهم وأن يعلنوا الضلال بكل الصور الممكنة كنوع من ذر الرماد في العيون المتربصة بهم في كل زمان ومكان أو كنوع من سحب الدخان التي تعمي الأعداء:

أما الهدى فوجدته ما بيننا
سرا ولكن الضلال جهار

الظاهر شيء، والباطن شيء آخر!..ألهذا يقولون: إن المعنى في بطن الشاعر؟! إذن فالاسم الحقيقي ـ بالمعكوس ـ للزوميات أبي العلاء هو "لزوم ما يلزم" لا "لزوم مالا يلزم" فلقد لزم ما لا يلزم ليفرض على كتيبته أن تلزم ما يلزم، بأن تلزم المعكوس لتعيد عكسه، والمقلوب لتعيد قلبه، والمبدل لتعيد إبداله!!

أستاذ الديالكتيك هو أبو العلاء قبل ديالكتيك هيجل المثالي وقبل ديالكتيك ماركس المادي. ولكن هذا يحتاج وحده إلى دراسة مطولة ليس هذا مكانها. فالمهم الآن أن أبا العلاء يعود فيترك لسان الحال إلى أبي هدرش ويمزج تارة ويفرق أخرى بين لسانه هو ولسان الجني الذي يواصل تعداد "مآثره" الشيطانية فيذكر أنه نادم قابيل وشيثا وهابيل، كما عاشر لقمان ورهطه، وأنه "جاهد" في بدر و"حامي" في أحد، وأنه راع في غزوة الخندق "الرئيس" أي أبا سفيان! وأنه مشى وراء جبريل وميكائيل وغيرهما من الملائكة الذين حاربوا مع المسلمين في تلك المعارك، وأنه طار في اليرموك فوق حصان حين اشتد الضرب والطعن كما سبق أن طار في زمن الطوفان!..وأنه حضر واقعة الجمل كما حضر واقعة صفين بين على ومعاوية وأنه سار قدام على في واقعة النهر، وبعد ذلك كله صادفته التوبة!..

للدليل بقية..


مع تحيات منتديات تونيزيا كافيه
http://www.tunisia-cafe.com

يتبع في الصفحة الموالية